الرسالة الأولى:
الرحيل!
لم أتعب أبدًا،لم أفقد الأمل في وجودك أبدًا.كنت أعلم برحيل الأشياء إلا أنتِ!لطالما أخبرتني أمي أن ألقي بالًا للحظات الوداع..أن أعد حقائبي دومًا.. كلهم سيرحلوا..أخبرتني أن لكل شئ نهاية ونهاية الأشياء لا تدق الأبواب بل تقتحمها،الدنيا بوابات ورسائل بعضها جميلة مغلفة تُرسل بالبريد لتتسلمها وكلها عطر حي يتنفس،وبعضها صواعق تصدمك لتقرع باب قلبك ثم تهدمه.
جدتي انفصلت عن جدي منذ أعوام "أيام الحرب" وسافر للعمل في ليبيا ثم عاد ليستقر بعدها بأعوام قليلة مات جدي،لم تبكِ جدتي دمعة واحدة ولم تنتفض حتى! أخبرني أبي أنها كانت صامتة تمامًا حتى أن ألم الصدمة لم يمر على قلبها،ولكنها كانت" كالماكينات" تعطي أوامر الدفن وتحضير الجنازة.الجارات تتمتم "يا ربي على الي ضيع عمره على واحدة وما صدقت إنه مات! خدت عمره كله وما كلفت خاطرها تصرخ بالكدب."
كانت لا تعير لهم همًا،يقول أبي أنها كانت تشارك في مراسم الدفنة "كالرجال" وكان كل أولادها رجال ولكنها كانت "أرجل" على وزن التفضيل،شوهد أولادها يبكون خلسة في غرف مظلمة،شوهدوا وهم يحزنون في الخفاءوجدتي لا.وأخبرني أبي أنها ماتت عقبها بشهر وعندما دخلوا غرفتها لأول مرة منذ وفاة جدي وجودا خطاباته من أيام الحرب وصورًا عديدة له وأخر جلباب ارتداه كلهم على سريره وكانت هي ملقاة أرضًا لم يتسع السرير لهم الاثنين كما لم تتسع الحياة لها وللذكريات التي تعدت الخمسين عام.
أمنت أن الرحيل شقين صوري وفعلي،نحن نكذب في الشق الأول ونعيش في كذبة أنه نهاية كل العذابات وكل الألام ولكنه كذبة أولية تنتهي بالرحيل الأبدي.يقول أبي أني أُشبه جدتي جدًا،وأعتقد أني اشبهها.
رحيل الأشياء من حولي ببطء لا يكلفني شيئًا،لا يكلفني أبدًا يومها ولا اليوم التالي ولا العام الثالث ولكنه يستمد من ذكرياتي ويحولها لكومة من الدخان الذي لا يتركني أعيش ولا أموت.كنت أخبرك في كل لحظة أني أقسى من أن تتحمليني وكنتِ تكابرين،أخبرتك أني شخص بشع وكنتِ تحضرين أطواق الورد لتزيني بها صوري"هكذا تبدو ملاكًا".إصرارك على التشعب في حياتي جعلني اقتلع الباب واختطفك للداخل وتناسيت ونسيت كل ما كنت أعانيه.
أخبرتيني أني اصطنع القوة والقسوة، "لا يوجد قلب يسترشد بالجمال فيضيع!" أخبرتيني أن ذوقي في الموسيقى رائع فأصبحت انتقي كل ما أسمعه هناك رقيب! تشعبتي في صدري كله فأخبرتيني أن الورد لا بأس به أحببته،فزرعتي صدري كله بالورد. كنت أخشى الوحدة فزاد اهتمامك بالموسيقى والفن والأدب هو أسلوب المواكبة كي أجد نسخة مطابقة مني فيكِ!
"لا أحب المعجنات ولا رائحة الطعام ولا أغاني الست ولا أطيق سماع الابيض والاسود." لا أدري حتى الآن كيف بعد تلك الكلمات توقفت عن سماع أم كلثوم وقل اهتمامي بالأفلام الكلاسيكية وكيف بدأت أشعر بالدوار من رائحة الطعام!
لم أخبرك أني تبدلت كثيرًا عندما أحببتك ولم تلحظي ولكنني علمت اليوم هذا جدًا،كنت دومًا أكتب عن فشلي في التعبير للأخرين بأي شكل غير الكتابة،أنا لست بارع في أشكال التواصل أو لا أجد بها أي أريحية كما أجدها في الكتابة،وحتى الكتابة لا أعلم من منا منحها للأخر فجأة وجدتك تكتبين بنفس شكلي وأني أكتب ما تحبين أنتِ قراءته!